التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الثورة على عثمان بن عفان مقال يبين فيه الدكتور سهيل طقوش خروج جماعات ثائرة من مصر والبصرة والكوفة في حركة احتجاج ضد الخليفة عثمان بن عفان، والتي أدت إلى
الطريق إلى المأساة
تتضمن روايات المصادر مادةً غنيةً تصف لنا تفاصيل الثورة على عثمان بن عفان -التي أدَّت إلى مقتله- بصورةٍ متعاطفةٍ مع الخليفة عثمان بن عفان أو مع الثائرين، لكن النظرة الموضوعية إلى تلك الروايات ومقارنتها ببعضها -على تضاربها- تُعطينا صورةً واقعيةً تُقارب الحقيقة إلى حدٍّ ما.
تتفق الروايات على أنَّ قادة القوى المعارضة خططوا وتآمروا بصورةٍ مشتركةٍ ومنسَّقة، إمَّا عن طريق تبادل الرسائل وإمَّا أثناء اجتماعٍ عقد في الحج في "نهاية 34هـ/ أواسط 655م"، لكنَّها تختلف بعد ذلك.
يتحدَّث الطبري -من خلال رواية سيف بن عمر- عن مؤامرةٍ على الأمَّة الإسلامية حاك خيوطها يهوديٌّ يمنيٌّ دخل حديثًا في الإسلام؛ هو عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء لسواد أمِّه، وقد جال في الأمصار قبل أن يستقرَّ في مصر، فنظَّم الحركة ورافق القوَّة المصرية إلى المدينة لحصار عثمان بن عفان، وهو أوَّل من نشر أفكارًا جديدةً ومشوشةً حول رجعة النبيِّ وحول الوصيَّة؛ أي الفكرة القائلة: إنَّ عليًّا هو وريث النبيِّ الشرعي، وطعن بعثمان بن عفان الذي تولَّى الخلافة بغير حق، وحرَّض على الثورة، كما أثار قضية ألوهيَّة عليٍّ وقداسته[1].
لقد صدمت حادثة الاغتيال وجدان المسلم المتتبع لتاريخه السياسي، فكان لا بُدَّ أن تُلقى مسئولية حادثة الاغتيال على كاهل أحد؛ إذ ليس من المعقول أن يتحمَّل وزر ذلك صحابة كبار حاربوا مع النبيِّ وشاركوا في وضع أسس الإسلام، فكان عبدالله بن سبأ؛ فهو الذي أثار الفتنة التي أدَّت إلى مقتل عثمان بن عفان، كما يتحمَّل مسئولية انشقاق المسلمين سياسيًّا وعقائديًّا من واقع ظهور الحركة الشيعيَّة، ومثَّل حركةً باطنيةً لهدم العالم الإسلامي، وقد شكَّلت نواةً لانطلاق المعارضة الخارجية والشيعيَّة.
الواضح أنَّ الطبري هدف من خلال رواية سيف أن يُبرز الدور الكبير الذي أدَّاه عبدالله بن سبأ في أحداث الفتنة، ويُؤكِّد كلَّ مسئولية جهة خارجية -يهودية بالتحديد- عن مقتل عثمان بن عفان، ويبرِّئ الصحابة وأهل المدينة من تلك المسئولية، واعتمدت المصادر التي أوردت دور ابن سبأ في أحداث الفتنة على ما رواه المؤرخ الطبري.
لم يرد عند أحدٍ من أصحاب المغازي، والإخباريين المتقدمين، وغيرهم من مؤرخي القرنين الثالث والرابع الهجريين، أيَّ ذكرٍ لدور عبد الله بن سبأ على الرغم من تناول العديد من المصادر الأدبية والتاريخية وكتب الفرق والأنساب إشاراتٍ مختلفةٍ ومتضاربةٍ حول اسم عبد الله بن سبأ، ونسبه، وعقيدته، ومصيره، في حين اكتفى بعضها بإيراد لفظة السبئية دون أن تُقدِّم تفسيرًا واضحًا لها، أو تعطي أيَّ معلوماتٍ تُذكر عن دور ابن سبأ في الفتنة، ومقتل عثمان بن عفان، وأحداث الجمل بعد ذلك. ومن جانبٍ آخر لم تحفظ كتبُ التراجم أيَّ معلومات عن رواة السبئية الأمر الذي أدَّى إلى اختلاف الدراسات الحديثة في درجة تقييمها للدور الذي تنسبه المصادر للسبئية في الفتنة[2].
فشكَّك بعض المؤرخين -ومعظمهم من الشيعة- في وجود شخصية عبد الله بن سبأ، وبالتالي في الدور المنسوب إليه من واقع أنَّ أفكاره هي موضوعات للتشيع العقائدي الذي سيتبلور في المستقبل، ومن الصعب التصوُّر بأنَّه جرى تداولها في تلك المرحلة المبكرة من عمر المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف المؤرخين حول بداية تاريخ التشيع الإسلامي. ويظهر النقد الذي أُثير حول وجود عبد الله بن سبأ أنَّه استباقٌ للأحداث، وأنَّه صورةٌ وهميةٌ تخيَّلها مؤرخو القرن الثاني للهجرة من أوضاعهم وأفكارهم السائدة حينئذٍ، وأنَّ مؤامرةً مثل هذه -وبهذا التفكير وهذا التنظيم- لا يُمكن أن يتصوَّرها العالم الإسلامي المعروف آنذاك بنظامه القبلي، وإنها تعكس أحوال العصر العباسي الأوَّل بجلاء، وإنَّ التشيع -كعقيدة منظمة- لها آراءٌ كلاميةٌ لا يُمكن أن تصدر إلَّا بعد أن توالت أحداثٌ مهمة مثل مقتل عليِّ بن أبي طالب، ومأساة كربلاء، كما أنَّ رواية سيف بن عمر محاطة بكثيرٍ من المحاذير والتساؤلات مثل: إملاء عبد الله بن سبأ مواقفه على أبي ذرٍّ الغفاريِّ وتأثُّره به، في حين كان أبي ذرٍّ رجلًا شديد الاعتداد برأيه، فقيهًا عالمـًا بقواعد الإسلام، فهل يُعقل أن يأخذ عن عبد الله بن سبأ وهو رجلٌ حديث العهد بالإسلام لم يشتهر بعلمٍ أو مالٍ أو منصب؟ ثُمَّ إنَّ آراء أبي ذرٍّ -المتعلقة بكنز الذهب والفضة والمال- سبقت لقاء أبي ذرٍّ مع ابن سبأ كما ورد عند الطبري، وسبقت ذهاب أبي ذرٍّ إلى دمشق أيضًا، كما أنَّ العنصر الزمنيِّ في روايات الطبري -التي تناولت تنقُّلات ابن سبأ بين الأمصار- تُساهم في عدم مصداقية حصول لقاءٍ بين الرجلين في دمشق في عام 30هـ، أمَّا نشاط ابن سبأ في البصرة والكوفة ومصر فهو محاطٌ بكثيرٍ من المحاذير والتساؤلات -أيضًا- ممَّا يحول دون تصديقها، والإجابات عن تلك التساؤلات متعذَّرة لعدم توافر المعلومات السكانيَّة عنها، سواءٌ عند الطبري؛ المصدر الرئيسي الذي استعرض دور عبد الله بن سبأ في الفتنة، أو في المصادر الأخرى التي اعتمدت على الطبري [3].
يختلف الأمر عند ابن إسحاق والواقدي؛ إذ إنَّ الصحابة الموزعين في الأمصار هم الذين كاتبوا بعضهم بعضًا قائلين: "أن أقدموا، فإن كنتم تُريدون الجهاد فعندنا الجهاد ... "، "إنَّكم إنَّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، تطلبون دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ دين محمد قد أُفسد من خلفكم وتُرك، فهلمُّوا فأقيموا دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"[4]. وبالتالي هم الذين أعطوا الأمر بالانتقال إلى العمل بفعل أنهم يُشكِّلون شبكةً كثيفةً من العلاقات.
الواقع أنًّه كانت هناك مؤامرةٌ من واقع تنسيق العمل وتحديد الأهداف في الأوساط النشطة لقرَّاء الكوفة ونظرائهم في البصرة ومصر، يُضاف إلى ذلك أنَّ المصادر المصرية تتحدَّث عن انقلابٍ في الفسطاط، واستيلاء محمَّد بن أبي حذيفة على السلطة، ذلك الذي ربَّما قد بادر إلى إرسال القوَّة المصريَّة ضدَّ عثمان بن عفان، وقد شيَّعهم لدى خروجهم[5].
الراجح أنَّ الخليفة عثمان بن عفان كان يجهل تلك الحركة في بادئ الأمر؛ لأنَّها كانت سريَّة، ويبدو أنَّها وصلت إلى مسامع الصحابة في المدينة فأعلموا عثمان بن عفان بها، وأشاروا عليه بأن يتحرَّى الأمر، فأرسل رجالًا يثق بهم إلى الأمصار المختلفة للوقوف على الأوضاع العامَّة فيها، فبعث محمَّد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل غيرهم إلى سائر الجهات، فلمَّا عاد الرسل أخبروه بأنَّ الأوضاع مستتبَّة وأنَّ المسلمين في الأمصار لا يُنكرون شيئًا، وأنَّ أمراءهم يعدلون بينهم، ولكنَّ عمار بن ياسر تخلَّف ولم يعد إلى المدينة.
بداية أحداث الثورة
بعد أن اختمرت دوافع الثورة خرجت إلى دور العمل والتنفيذ، ومثَّل قدوم الثائرين من مختلف الأمصار الإسلامية إلى المدينة عام "35هـ/ 655-656م" تتويجًا للتحركات السابقة؛ فقد خرجوا كجماعاتٍ منتظمةٍ مع رءوس مجموعات، وقائدٍ لكلِّ فرقةٍ بكاملها، وسيكون هؤلاء الفاعلين الرئيسيين الممثلين للاحتدام؛ لأنَّ الروايات حفظت أسماءهم، ويدلُّ انتسابهم القبليِّ على أحوالهم الاجتماعية.
خرجت الجماعة الأولى من مصر؛ وقد بلغ عدد أفرادها بين أربعمائة وألف مقاتلٍ بقيادة الغافقيِّ بن حرب العكِّي، وفي عدادهم أبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانية بن بشر التجيبي من كندة، وسودان بن حمران السكوني من كندة أيضًا، وعروة بن شييم الكناني، وغيرهم من صغار زعماء العشائر، وادَّعوا بأنَّهم يُريدون العمرة، فأرسل والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح كتابًا إلى الخليفة يُعلمه بخروجهم[6].
إنَّ الشخص الملفت بينهم هو عبد الرحمن بن عديس البلوي من قبيلة بلى، إحدى القبائل التي أقامت في مصر منذ فتحها، وهو من صحابة النبيِّ والوحيد الحامل لهذه الصفة، وبالتالي فإنَّه ينتمي إلى جماعة الصحابة ذات الأصل البدويِّ الذين تعاظم دورهم مع الوقت، وأدَّى عروة بن شييم الكناني دورًا كبيرًا في عملية القتل، فهو الفاعل الرئيسي[7].
خرجت الجماعة الثانية من الكوفة؛ وقد بلغ عددها مائتي مقاتل بقيادة عمرو بن الأصم، وفي عدادهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، والصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي وهو من صغار زعماء العشائر[8]، والرجل البارز بينهم هو الأشتر؛ إذ إننا نراه في الصورة إلى جانب عثمان بن عفان ينصحه بالتنازل عن منصبه أو محاولًا قتله لكن دون أن يتمكَّن من حسم الأمر، إنَّه الكوفي الوحيد الذي يشعر القارئ بحضوره وفاعليته[9]، أمَّا عمرو بن الحمق الخزاعي فقد تردَّد اسمه غير مرة، وهو أحد المشتركين القلائل في القتل، وتُعزى إليه أعمالٌ رهيبةٌ في أثناء دفن عثمان المأساوي والسري[10].
خرجت الجماعة الثالثة من البصرة؛ وقد بلغ عدد أفرادها مائة وخمسين مقاتلًا بقيادة حرقوص بن زهير السعدي، وفي عدادهم عددٌ من صغار زعماء العشائر، أمثال: حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الخطم بن ضبيعة القيسي، وغيرهم[11]. ويسترعي كلٌّ من حرقوص وحكيم الانتباه؛ فهما أشدُّ مهاجمي البصرة.
انتسبت الأكثرية المطلقة لزعماء الثائرين إلى فئة الزعامات القبليَّة التقليديَّة التي لم تؤدِّ دورًا مميزًا في تاريخ الإسلام، لكنَّها كانت جميعًا من أهل الأيام والقادسية؛ إذ عندما حاصر الثائرون عثمان بن عفان كتب إلى أهل الأمصار يستمدُّهم ليُرسلوا له النجدات على وجه السرعة لمواجهتهم، ويُوضِّح تشخيصه لهويَّة الثائرين ومحاصريه أنَّهم أعراب وقبائل مع مقارنتهم بالأعراب الذين حاصروا المدينة في غزوة الخندق أو الأحزاب[12]، "فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأُحُد إلا ما يظهرون" [13] رؤيته لهذه الحركة التي تُمثِّل تمرُّد الأعراب والقبائل عليه، وتغذِّي المعارضة ضدَّه في الأمصار، إنها إذًا حركة الأعراب؛ أي حركة القبائل[14].
يبدو أنَّ المصادر التي أمدَّتنا بأرقام جماعات الأمصار التي توجَّهت إلى المدينة وأسماء الشخصيات التي قادتها ورافقتها، هدفت إلى التأكيد أنَّ حركة الاحتجاج ضدَّ الخليفة عثمان بن عفان إنما هي حركةٌ شعبيةٌ شاملة شاركت فيها مختلف الأمصار من أجل وضع حدٍّ لتجاوزات السلطة المركزية، ويُلاحظ أنَّ المصادر المختلفة اعتمدت على رواة عراقيين مثل أبي مخنف؛ وذلك لإعطاء المصريين الحجم الأكبر، وتحميلهم المسئوليَّة عن قتل الخليفة عثمان[15]، وإبراز الدور الثانوي لثوَّار البصرة والكوفة بالمقارنة مع الدور الذي أدَّاه المصريون.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1]الطبري: 4/340، 341، والبغدادي: الفرق: ص226.
[2] ملحم: ص233-244.
[3] انظر: أبو الحسين الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: ص25، وزهرة، محمد: المذاهب الإسلامية: ص4، والنشار، سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: 1/18، وأمين أحمد: فجر الإسلام: ص110-154، ومعروف، نايف: الخوارج في العصر الأموي: ص48، والطالبي، عمار: آراء الخوارج الكلامية: 1/69،70، والقاضي، وداد: الكيسانية في التاريخ والأدب: ص118، 119، وكاشف، سيدة إسماعيل: مصر في فجر الإسلام: ص111، 112، وشنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة: ص52، 53، والبكاي: ص20، 21، وحسين، طه: المجموعة الكاملة: 4/518، 519، والهلابي، عبد العزيز صالح: عبد الله بن سبأ: دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، حوليات كلية الآداب جامعة الكويت الحولية الثانية: 1987 ص73، وبيضون إبراهيم: الإمام علي: ص179-195، ولويس، برنارد: أصول الإسماعيلية: تعريب خليل جلو وجاسم الرجب: ص86، 87، وعلي، جواد: عبد الله بن سبأ، مجلة المجمع العلمي العراقي: مجلد 5 ص66-100.
[4] البلاذري: 6/174، 175، والطبري: 4/336-367.
[5] الطبري: المصدر نفسه: ص357.
[6] الطبري: 4/348-357.
[7] جعيط: ص110.
[8] يذكر الطبري: من خلال رواية سيف بن عمر: إنَّ عددهم كعدد من خرج من أهل مصر،
4/349، وقارن بالبلاذري: 6/174.
[9] الطبري: المصدر نفسه: ص371، 372.
[10] المصدر نفسه: ص393، وجعيط: ص110، 111.
[11] البلاذري: 6/174، والطبري: 4/349، الذي يذكر من خلال رواية سيف
بن عمر: إنَّ عددهم كعدد من خرج من أهل مصر.
[12] حدثت غزوة الخندق في عام 5هـ.
[13] الطبري: المصدر نفسه: ص351، 352.
[14] إبراهيم: ص255.
[15] ملحم: ص150.
التعليقات
إرسال تعليقك